عبد العظيم فنجان: عدا النتاج الستيني لم أقرأ من الشعر العراقي سوى القليل

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
27/08/2012 06:00 AM
GMT



لأسباب كثيرة يشرحها في حواره هنا، تأخر الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان عن نشر شعره، على الرغم من أنه بدأ الكتابة في ستينيات القرن الماضي، فنشر منذ سنوات «أفكر مثل شجرة»، ليتبعه منذ أيام كتاب جديد «الحب حسب التقويم البغدادي» (منشورات الجمل). في هذا الحوار، يفرد فنجان أشرعة الرحلة ليتحدث عن الذاكرة والكتابة وأبرز التفاصيل التي تكون عالمه الشعري.

*بدأت الكتابة في سبعينيات القرن الماضي، لكنك لم تنشر كتابا سوى منذ سنوات قليلة. لمَ هذا التأخر في النشر؟ 
 - إذا اتفقنا على أن النشر يأتي تاليا، فالكتابة هي الأهم إذن: هذا هو الدرس الذي تعلمته من الظروف العراقية المركبة في تلك السنوات. كما أن نشر أو تداول قصيدة النثر كان ممنوعاً في العراق بأمر حكومي، ولم يُعاد لها الاعتبار إلا في منتصف الثمانينيات، بغية شحنها في شعر التعبئة الحربية: طبعاً هذا ينم عن سوء فهم لماهية قصيدة نثر، ولأغراضها. أضف إلى ذلك أن النشر نفسه كان مقيداً إلى مبادئ سياسية ليس لها علاقة بالأدب أو بالثقافة. هذه أمور مهمة، لكن الأهم منها هو أنني ـ طوال تلك السنين ـ كنت مشغولاً ومهموماً بتكوين بصمتي الشعرية الخاصة، ومن ثم بدأ قلق العثور على النافذة التي أطلق منها عصافيري، فكانت منشورات «دار الجمل»، بعد طول صبر وتبتل. قبل ذلك نشرت، ولأول مرة، في العام 1993 عدداً من قصائدي في الصحف العراقية وبعض الصحف العربية، لأن التسعينيات العراقية شهدت مولد جيل جديد غاضب، بعد انتفاضة الربيع في عام 1991، يملك نفس سحنة التمرد في عقد الستينيات، لكنني لم أستمر، إذ سرعان ما غادرت العراق، وعندما عدت بعد حوالى عشر سنوات، وجدتُ اسمي محفوراً في الذاكرة العراقية، رغم أنني لم أنشر سوى قصائد معدودة.
*«أفكر مثل شجرة»، ديوانك الأول، واليوم يصدر «الحب حسب التقويم البغدادي»، أول ما لفتني هي هذه الجملة البعيدة عن الشعر العراقي، وكأنك تأتي من أماكن أخرى للقصيدة؟ ما سرّ هذه القطيعة إذا جاز التعبير؟ 
 - تفتح وعيي على جيل الستينيات العراقي، الجيل الذي جاء بحساسية شعرية أخرى، مغايرة ومتجاوزة لما سبقها، وهي حساسية تتناسب مع جموحي، عفويتي، وأغلاطي. وهي التي أدت في ما بعد إلى ما أسميته أنت بالقطيعة، ولم يكن ذلك مقصوداً، أعني: لم يكن بمقدوري رفس الجنة التي تخص العامة، لكنني سعيتُ إلى ابتكار فردوسي أو جحيمي الخاص الذي يتناسب مع هواجسي، حساسيتي وآلامي. وكان للشعر الستيني، سيّما سركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح فائق، وللقصائد المترجمة من اللغات الأخرى، سيّما شار وميشو وبورخس وكفافي، دوراً كبيراً، ليس في تهذيب تلك الحساسية، بل وفي توجيهها إلى مناطق شعرية أخرى، قد تكون مكتشفة، لكنه اكتشاف غير تام، أو لم ينته منها الشعر. أضف إلى ذلك أنني فهمت أن هناك طرائق عديدة للقول الشعري، وأن صياغة الجملة الشعرية الواحدة يتطلب جهدا كبيراً، وتجريبات متعددة، ومن ثم فهمتُ تماما أن القصيدة الحديثة هي مجموعة مواقف، وليست غرضاً واحداً، كالمديح والرثاء أو الغزل: هكذا حاولت تجسيم هذا الفهم في شعري الذي ينطوي على مواقف عديدة ومتداخلة بينها. قد أكون مغاليا عندما أقول لك: لم أقرأ من الشعر العراقي، عدا الشعر الستيني، إلا قليله النادر.
* تعيد في كتابك الجديد الاعتبار للحب، من حيث الاحتفاء به وتمجيده. أي طاقة شعرية وكتابية وحياتية تريد الاحتفال بها؟ 
-  أريد أن أشكر، أولا، الصديق خالد المعالي الذي «ضغط» عليَّ بشكل كبير من أجل أن يتجسم هذا الذي أسميتَه: إعادة الاعتبار للحب، في كتاب هو احتفال بانورامي بمغامرة العيش والتيه على سطح هذا الكوكب، ومن ثم العودة إلى مسقط رأس الألم الذي ولّيت هاربا منه. هو احتفال مشفوع بالدموع، دموع الدقائق الأولى من الانتصار فقط، ومن ثم الخيبة أو الخيبات الكبيرة: الحب، الوطن، الصداقة، وهو احتفال بالمرأة أيضا: الصديقة، الزوجة والحبيبة، لكنه أيضا تكريس للخبرة: خبراتي القرائية الكتابية والشعرية: مدى استيعابي للكثافة عند شار، الفنطازيا عند ميشو، البعد التأملي والكوني عند بورخس، والاحتفاء بما هو هامشي، مهمل، بنبرة ساخرة عند كفافي: كل هذا يمتزج بخبرة حياة شاقة لا يمكن النجاة من شراكها إلا بالحب، لأنه طيران فوق الزمن، وبالشعر لأنه أجمل ما فيّ، أنا عبد العظيم، كإنسان.
* ولدت في الناصرية جنوب العراق، وتعيش اليوم في كركوك الشمالية، وذلك بعد أن خبرت هجرات متعددة داخل العراق وخارجه (إيران). أولا لمَ كانت هذه الهجرات وما الدور الذي لعبته هذه الأمكنة في كتابتك؟ 
-  العراق، بلدي، أشبه بحقل من الرمال المتحركة. وطنٌ متعكّر المزاج لأسباب واضحة أحيانا، وأحيانا لأسباب غامضة. وأنا أيضا مثل وطني: أولادي يطلقون عليَّ لقب: «بابا العجيب» إذ يحصل أن يستيقظوا في الصباح ولا يجدونني: أغيبُ لأظهر في مكان آخر، ومن ثم أعود: هذه رحلات ـ هجرات تتناسب مع إيقاع الروح، روحي، عندما تكون طليقة، لا مركز ثقل يشدها إلى الأرض، لكن الحياة سرعان ما تتدخل، الحياة بكل ما فيها من سواد، في إجباري على الرحيل نحو بقاع غير متوقعة، أو لم أخطط لها. هكذا عشتُ في مدن وبلدان الآخرين، ولم ألتذ لحد الآن بهذا الذي يسميه باشلار: «مركز الحماية» وأعني البيت. غير أن هذه الهجرات ضاعفتني، ضاعفت إنساني الداخلي، وهو أمر لا بد من أن يحصل عندما تختلط بعادات وثقافات أخرى، وبالتالي انعكس ذلك كله على حساسيتي الشعرية، وعلى طريقة كتابتي، ومن هذه الهجرات وُلدت صيغة العاشق المتشرّد، الذي يطارد أحلاما مستحيلة التحقق، في واقع تحكمه المفاهيم لا الاحتمالات. وهذا واضح جدا، كما أعتقد، في «كتاب الحب» بقسميه السومري والبغدادي.
رسائل الجنود
* بالرغم من الاحتفاء بالحب، إلا أن ثمة أثراً واضحاً للحرب في شعرك، كيف اجتزتها وكيف اجتازتك؟ 
 - أنجبت الحربُ كماً هائلاً من الشعراء كرسوا جلّ نتاجهم لعبادة الموت والكراهية، فيما كنتُ أكتبُ رسائل الجنود إلى حبيباتهم أو أهلهم في الثكنات: هذه تجربة رائعة في الكتابة، كتابة الرسائل، وقد أفدتُ منها كثيرا في تجاربي مع القصيدة. هكذا اجتزتُ الحرب، ولم أدعها تخترقني، لأن الكتابة هي، أصلا، فعل مقاومة، لا فعل انصياع. كنتُ موضوعاً تحت المراقبة بسبب ميولي السياسية، وبسبب هروبي من الحرب مرات عدة. كانوا يبحثون في كتبي وفي أوراقي، خلسة عني، وكان عليَّ أن ازور «طائعا» مراكز الاستخبارات العسكرية للتحقيق معي شهرياً. كنتُ أعرف معنى هذا الإذلال، وكنت أعرف أنه الرعب الذي إن استسلمتُ له فسوف تنشلُّ مخيلتي، وأخنق الشاعر الذي كان ينمو ويكبر في داخلي. كانت كتابة الرسائل وقصائد الحب، بشكل ما، محاولة لرد الصفعة بصفعات، لكن كان لا بد للحرب من أن توجد، ففي الأخير هناك شروخ كبيرة قد حصلت، أصدقاء، زملاء ورفاق درب ماتوا أو سافروا أو اختفوا من حياتي عبثاً، وبدون أن يشعر النظام نحوهم أو نحوي بأي أسف.